فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفى الحديث: «الصّبرُ ضِياء».
وفيه: «من يتصبّر يُصَبّره الله».
وأَمَر بالصّبر عند المصيبة، وأَخبر أَنه عند الصَّدْمة الأُولى، وأَمر المصاب بأَنفع الأُمور له وهو الاحتساب، فإِنَّ ذلك يخفِّف مُصيبته ويوفّر أَجره.
والجزع والسّخط والتشكِّى يزيد المصيبة، ويُذهب الأَجر.
والصّبر على ثلاثة أَنواع: صَبْرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله.
فالأَولان: الصّبر على ما يتعلق بالكسب.
والثالث: الصّبر على مالا كسب للعبد فيه.
وقال بعض المشايخ: كان صبر يوسف عن طاعة امرأَة العزيز أَكمل من صبره على إِلقاءِ إِخْوته إِيّاه في الجُبّ، وبيعهم إِيّاه، وتفريقهم بينه وبين أَبيه، فإِنَّ هذه أُمور جرَت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصّبر.
وأَمّا صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربةٌ للنَّفس، ولاسيّما مع أَسبابٍ تقوّى معها داعية الموافقة؛ فإِنّه كان شابًّا، وداعية الشابّ إِليها قوَّته؛ وكان عَزَبًا ليس له ما يعوّضه ويَرُدّ شهوته؛ وغريبًا، والغريب لا يستحى في بلدِ غُربته ممّا يستحى منه بين أَصحابه وأَهلِه؛ ويحسبونه مملوكًا، والمملوك ليس وازعهُ كوازع الحرّ؛ والمرأَة جميلة وذات مَنْصِب، وقد غاب الرّقيب، وهى الدّاعية له إِلى نفسها، والحريصة على ذلك أَشدّ الحرص، ومع ذلك توعّدته بالسجن إِن لم يفعل.
فمع هذه الدّواعى كلّها صبر اختيارًا، وإِيثارًا لما عند الله.
وأَين هذا من صبره في الجُبّ على ما ليس من كسبه؟!
والصّبر على أَداءِ الطَّاعات أَكمل من الصّبر على اجْتِنَاب المحرّمات؛ فإِنَّ مصلحة فعل الطَّاعة أَحَبُّ إِلى الشَّارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أَبغض وأَكره من مفسدة وجود المعصية.
ثمّ الصّبر ينقسم بنوع آخر من القسمة على ثلاثة أَنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأَوّل: الاستعانة به، ورؤية أَنَّه هو المصبِّر، وأَنَّ صبر العبد بربّه لا بنفسه، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ}، يعني إِنْ لم يُصَبِّرك هو لم تصبر.
والثَّانى: أَن يكون الباعث على الصّبر محبّة الله وإِرادة وجهه، والتقرّب إِليه، لا إِظهار قوّة النفْس، والاستحماد إِلى الخلق، وغير ذلك من الأَغراض.
والثالث: دروان العبد الذي مُنى مع الأَحكام الدينيّة صابرًا نفسه معها، سائرًا بسَيرها، مقيمًا بإِقامتها، يتوجّه معها أَينما توجّهت ركائبها، وينزل حيث استقلَّت مضاربُها.
فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، قد جعل نفسه وَقْفا على أَوامره ومحابّه.
وهو أَشدّ أَنواع الصّبر وأَصبعها.
وهو صب الصدّيقين.
قال ذو النُّون: الصبر: التباعد من المخالفات، والسّكون عند تجرّع غُصص البليّات، وإِظهار الغنى مع طول الفقر بساحات المعيشة.
وقيل: الصبر: الوقوف مع البلاءِ بحسن الأَدب.
وقيل: هو الفناءُ في البلوَى، بلا ظهور شكوَى.
وقيل: إِلزام النَّفْس الهجومَ علىلمكاره.
وقيل: المُقام مع البلاءِ بحسن الصّحبة كالمقام مع العافية.
وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله، وتلقِّى بلائه بالرُّحْب والسّعة.
وقال الخّواص: هو الثبات على أَحكام الكتاب والسنة.
وقال يحيى بن مُعَاذ: صبر المحبّين أَشدّ من صبر الزاهدين.
واعجبا كيف يصبرون! وأَنشد.
والصّبر يُحْمَدُ في المواطن كلِّها ** إِلاَّ عليك فإِنَّه مذمومُ

وقيل: الصّبر هو الاستعانة بالله. وقيل: هو ترك الشكوَى. وقيل:
الصّبر مثلُ اسمه مُرٌّ مَذاقته ** لكنْ عواقبه أَحلَى من العسلِ

وقيل: الصّبر أَن ترضى بتلَف نفسك في رضا مَن تحبّه، كما قيل:
سأَصبر كي ترضَى وأَتْلَفُ حسرةً ** وحَسْبِىَ أَن ترضى ويقتلنى صبري

وقيل: مراتب الصّبر خمسة: صابر، ومصطبر، ومتصبّر، وصَبُور، وصبّار.
فالصّابر أَعمّها.
والمصطبر: المكتسِب للصبر، والمبتلَى به.
والمتصبرّ: متكلِّف الصّبر حاملُ نفسِه عليه.
والصّبور: العظيم الصّبر الذي صَبْره أَشدّ من صبر غيره.
والصّبَار: الشديد الصّبر، فهذا في القَدْر والكمّ، والَّذى قبله في الوصف والكيف.
وقال علىّ بن أَبى طالب: الصّبر مطيَّة لا تَكْبُو.
وقف رجل على الشِّبْلِىّ فقال: أي الصّبر أَشدّ على الصّابرين؟ فقال: الصّبر في الله.
فقال السّائل: لا.
قال: مع الله.
قال: لا.
قال: فأَيش؟ قال: الصّبر عن الله.
فصرخ الشِّبلىّ صَرخةً كادت نفسه تتلف.
وقال الجَريرىّ: الصّبر أَلاَّ تفرق بين حال النعمة وحال المحنة، مع سكون الخاطر فيهما.
والتصبّر: السّكون مع البلاءِ، مع وِجدان أَثقال المحْنَة.
وقال أَبو على الدّقَّاق: فاز الصّابرون بعز الدّاريَين؛ لأَنهم نالوا مع الله معيَّته؛ فإِنَّ اللهَ مَعَ الصّابرين.
وقيل في قوله: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}، انتقال من الأَدنى إِلى الأَعلى.
فالصبر دون المصابرة، والمصابرة دون المرابطة: مفاعلة من الرّبط وهو الشدّ.
وسمّى المرابِط مرابطًا لأَنَّ المرابِطين يربِطون خيولهم ينتظرون الفَزَع. ثمّ قيل لكلّ منتظر، قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابِط.
وقيل في تفسيره: اصبروا بنفوسكم، وصابروا بقلوبكم على البَلْوَى في الله، ورابطوا بأَسراركم على الشوق إِلى الله.
وقيل: اصبروا في الله، وصابروا بالله، ورابطوا مع الله لعلكم تفلحون في دار البقاءِ.
فالصبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوّك، والمرابطة: الثبات وإِعداد العدّة؛ كما أَن الرّباط ملازمة الثغر لئلًا يهجُمه العدوّ.
فكذلك المرابَطة أَيضًا: لزوم ثَغْر القلب؛ لئلاَّ يهجُم عليه الشيطان فيملكَه.
أَو يُخربه أَو يشعِّثه.
وقيل: تَجَرَّعِ الصّبرَ، فإِنّْ قَتَلَك قتلك شهيدًا، وإِن أَحياك أَحياك عزيزًا حميدًا.
وقيل: الصّبر لله عَناء، وبالله بقاء، وفى الله بلاء، ومع الله وفاء، وعن الله جفاء.
والصّبر على الطَّلب عنوان الظَّفر، وفى المِحَن عنوان الفَرَج.
وفى كتاب الأَدب للبخارىّ: سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإِيمان فقال: «الصّبر والسّماحة».
وهذا من أَجمع الكلام، وأَعظمه برهانًا، وأَوعاه لمقامات الإِيمان من أَوّلها إِلى آخرها؛ فإِن النَّفس يراد منها شيئان: بذل ما أُمِرَت به وإِعطاؤه، فالحامل عليه السّماحة؛ وتركُ ما نُهيَتْ عنه والبعد عنه، فاحامل عليه الصّبر.
وقد أضمر الله سبحانه في كتابه بالصّبر الجميل الذي لا شكو معه، والصّفح الجميل الذي لا عِتاب معه، والهجرِ الجميل الذي لا أَذى معه.
وقال ابن عُيَيْنَة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ}: أَخذوا برأْس الأَمر فجعلهم رُءُوسًا.
واعلم أَنَّ الشكوى إِلى الله عزَّ وجلّ لا تُنافى الصّبر؛ فإِنَّ يعقوب- عليه السلام- وَعَد بالصّبر الجميل، والنبىّ إِذا وَعَدَ لا يُخلف، ثمّ قال: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}، وكذلك أَيّوب عليه السّلام أَخبر الله عنه أَنه وجده صابرًا مع قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، وإِنَّمَا ينافى الصبر شكوى الله لا الشكوى إِلى الله؛ كما رأَى بعضهم رجلًا يشكو إِلى آخر فاقةً وضرورة، فقال: يا هذا، تشكو من يَرْحَمُكَ إِلى مَنْ لا يرحمك! ثمّ أَنشده:
وإِذا اعْتَرَتْكَ بليّةٌ فاصبِر لها ** صَبْرَ الكريمِ فإِنَّه بك أَرحمُ

وإِذا شكوتَ إِلى ابن آدم إِنّما ** تشكو الرّحيم إِلى الذي لا يرحم

وقال الشيخ عبد الله الأَنصاري:
الصّبر حبس النفْس على المكروه، وعقل اللِّسان عن الشكوى.
وهو على ثلاث درجات:
الأُولى: الصّبر عن المعصية بمطالعة الوعيد.
وأَحسن منها الصّبر عن المعصية حياءً.
الثانية: الصّبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوامًا، وبرعايتها إِخلاَصًا، وبتحسينها عِلمًا.
الثالثة: الصّبر في البلاءِ بملاحظة حسن الجزاءِ، وانتظار رَوْح الفَرَج، وتهوِين البليّة بِعَدّ أَيادى المِنَن، وتذكُّر سوالف النِّعم.
وأَضعف الصّبر، الصَّبْرُ لله وهو صبر العامة.
وفوقه الصبر بالله وهو صبر المريدين.
وفوقه الصبر على الله وهو صبر السّالكين.
ومعنى كلامه أَنّ صبر العامّة لله، أي رجاءَ ثوابه وخوف عقابه، وصبر المريدين بالله، أي بقوّة الله ومعونته، فهم لا يرون لأَنفسهم صبرًا ولا قوّة عليه، بل حالهم التَّحقُّق بلا حول ولا قوّة إِلاَّ بالله عِلمًا ومعرفة وحالًا.
وفوقها الصّبر على الله، أي على أَحكامه.
هذا تقرير كلامه رحمه الله.
والصّواب أَنَّ الصّبر لله فوق الصّبر بالله، وأَعلى درجة، وأَجلّ شأْنًا؛ فإِنَّ الصّبر لله متعلق بالإِلَهية، والصّبر به متعلق بربوبيّته، وما تعلق بالإِلَهية أَكمل وأَعلى مما تعلق بربوبيّته، ولأَنَّ الصّبر له عبادة، والصّبر به استعانة، والاستعانة وسيلة، والعبادة غاية، والغاية مرادة لنفسها، والوسيلة مرادة لغيرها؛ ولأَنَّ الصّبر به مشترك، بين المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، فكلّ من شهد الحقيقة الكونيّة صَبَر به، وأَمّا الصّبر له فمنزلة الرُّسُل والأَنبياءِ والصّدِّيقين؛ ولأَن الصّبر له صبر فيما هو حقّ له، محبوب له، مرضىّ له، والصّبر به قد يكون في ذلك، وقد يكون فيما هو مسخوط له، وقد يكون في مكروه أَو مباح.
فأَين هذا من هذا؟!
وأَمّا تسمية الصّبر على أحكامه صبرًا عليه فلا مشاحّة في العبارة بعد معرفة المعنى.
والله أَعلم.
وقد يعبّر عن الانتظار بالصبر لمّا كان حق الانتظار أَلاَّ ينفكّ عن الصّبر، بل هو نوع من الصّبر؛ قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي انتظر حكمه لك على الكافرين.
وقيل: الصّبر لفظ عامّ، وربّما خُولِفَ بين أَسمائه بسبب اختلاف مواقعه.
فإِن كان حَبْسُ النَّفس لمصيبة سُمِّىَ صبرًا لا غَيْر، ويضادّه الجزع.
وإِن كان في محاربة سمّى شجاعة، ويضادّه الجُبْن.
وإِن كان في نائبة مُضجرة سمّى رُحْب الصّدر، ويضادّه الضَّجْر.
وإِن كان في إِمساك الكلام سُمِّىَ كتمانًا، ويضادّه المَذْل.
وقد سمّى الله تعالى كلّ ذلك صبرًا لقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ}.
تَسَلَّ- حينما تتنوع عليك الأحوال- بما نُطْلِعُكَ عليه من الأخبار؛ وإنَّ كُتُبَ الأحبابِ فيها شفاءٌ لأنها خطابُ الأحباب للأحباب.
قوله جلّ ذكره: {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.
أي لا تغيير لِحُكْمِه؛ فَمنْ أقصاه فلا قبولَ له، ومَنْ أدناه فلا وصولَ له، ومَنْ قَبِلَة فلا رَدَّ له، ومَنْ قَرَّ به فلا صَدَّ له.
قوله جلّ ذكره: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاوَةِ وَالعَشِىَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} ولم يقل: قلبك لأن قلبه كان مع الحقِّ، فأمره بصحته جَهْرًَا بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرًَّا بِسرِّ.
ويقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: معناها مريدين وجهه أي في معنى الحال، وذلك يشير إلى دوام دُعائِهم ربهم بالغداة والعشيّ وكون الإرادة على الدوام.